"الاكتئاب المبتسم".. حين تبتسم الوجوه وتبكي الأرواح: قصة شهد والمراهقين الذين يعانون في صمت
![]() |
| "الاكتئاب المبتسم".. حين تبتسم الوجوه وتبكي الأرواح: قصة شهد والمراهقين الذين يعانون في صمت |
مقدمة صوت الواقع
في عالم باتت فيه الابتسامات أحيانًا مجرد أقنعة، تبرز قصة الطالبة "شهد" ذات السبعة عشر عامًا من سلطنة عُمان، كصرخة مدوية في وجه صمتٍ طويل يلفّ معاناة المراهقين النفسية. لم تكن شهد تختلف عن أقرانها في شيء، كانت محبة للحياة، نشطة، ضاحكة، ومفعمة بالحيوية. لكن خلف هذه الظاهر، كان الألم ينهش داخلها بصمت، حتى اتخذت قرارًا مأساويًا بإنهاء حياتها داخل دورة مياه مدرستها، في حادثة هزّت المجتمع وأعادت تسليط الضوء على ظاهرة "الاكتئاب المبتسم" التي تفتك بأرواح عديدة دون أن يلاحظها أحد.
ابتسامة قبل الرحيل
تروي والدة شهد، السيدة عذراء، كيف أن ابنتها لم تُظهر أي علامات واضحة على الحزن أو الاكتئاب، بل كانت تبدو طبيعية ومتفائلة، وكانت تضحك وتتمايل خفة في المنزل كعادتها. "في الليلة التي سبقت الحادثة، كانت تضحك على نكتة بسيطة، ضحكة مبالغ فيها ربما، لكنها لم تثر قلقي وقتها"، تقول الأم.
لكن ما خفي كان أعظم. شهد كانت تتألم في صمت، تنزف مشاعرها بصمت داخل دفتر مذكرات لم تعلم الأسرة بوجوده إلا بعد فوات الأوان. كتبت شهد قبل رحيلها بساعات: "حاولت أمس أن أقتل نفسي لكن فشلت، ربما لأنني أحب الحياة". وفي مذكرة أخرى كتبت: "أشعر أنني فقدت السيطرة على نفسي، أشعر أنني سأُجَنّ أو ربما أصبت بالجنون، ولا أعلم ما هي النهاية".
تلك الكلمات، بكل ما تحمله من ألم وتمزق داخلي، كانت بمثابة مرآة لروح مراهقة تئن تحت وطأة صراعاتها، بينما يرى المحيطون بها مجرد ابتسامة مشرقة لا تعكس شيئًا من واقعها الحقيقي.
الاكتئاب المبتسم.. المرض الذي يخدع الجميع
يطلق المتخصصون على هذه الحالة اسم "الاكتئاب المبتسم"، وهو شكل من أشكال الاكتئاب الخفي، يظهر فيه المصاب سعيدًا من الخارج، لكنه يعاني داخليًا من حزن شديد وأفكار سوداوية. الخطورة في هذا النوع من الاضطرابات النفسية تكمن في أنه لا يُلاحظ بسهولة، مما يؤدي إلى تأخر التدخل والدعم.
توضح الأخصائية النفسية بسمة آل سعيد أن "المكتئب المبتسم قد يكون ناجحًا، محبوبًا، ويبدو طبيعيًا تمامًا، لكنه داخليًا يعاني من صراعات لا يجرؤ على البوح بها. وغالبًا ما يلجأ المصابون إلى الضحك المفرط، التهكم، أو التصرفات النشطة، كوسائل دفاعية لإخفاء مشاعرهم الحقيقية".
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن ما يقارب 1 من كل 7 أشخاص تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عامًا يعانون من اضطرابات نفسية، ويُعد الاكتئاب والانتحار من أبرز أسباب الوفاة في هذه الفئة العمرية. رغم هذه الأرقام المقلقة، إلا أن معظم الحالات تبقى بلا علاج، إما بسبب تجاهل الأعراض أو وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية.
ما وراء ابتسامات المراهقين؟
تبدأ معاناة العديد من المراهقين في صمت، متأثرةً بعوامل متعددة مثل التنمر، الضغط الأكاديمي، التغيرات الهرمونية، المشكلات الأسرية، أو حتى الشعور بعدم التقدير. في حالة شهد، بدأ الأمر بتعرضها للتنمر من بعض زميلاتها في المدرسة منذ أواخر عام 2023، ما جعلها تنكفئ على ذاتها، وتبحث عن ملاذ نفسي في الكتابة، وهو سلوك شائع لدى المراهقين الذين لا يجدون من يستمع إليهم.
ويشير مختصون إلى أن تجاهل المؤشرات البسيطة، مثل المبالغة في الضحك، تغيّر نمط النوم أو الأكل، أو الانعزال المفاجئ، قد يكون له عواقب وخيمة. فالمراهقون لا يملكون في كثير من الأحيان الأدوات المناسبة للتعبير عن معاناتهم، لذا يلجؤون إلى الرموز أو الإشارات الصامتة.
تقول آل سعيد: "علينا أن نكون حسّاسين لما لا يُقال. أحيانًا يتحدث المراهق بصمته، عبر لغة الجسد، أو تغيّرات سلوكية غير معتادة".
تجارب صادمة وواقع مرير
ليست شهد الوحيدة التي واجهت معاناتها النفسية في صمت. هاجر، شابة في الثالثة والعشرين من عمرها، تروي كيف أن تجربة تحرش تعرّضت لها في طفولتها أدت بها إلى حالة نفسية معقدة، انتهت بمحاولة انتحار في سن الخامسة عشرة. تقول: "كنت أشعر براحة عند رؤية الدم، وكأنني أتخلص من آلامي". اليوم، بعد خضوعها لجلسات علاج نفسي عبر الإنترنت، أصبحت أكثر توازنًا، وتصف تجربتها بأنها "نقطة تحوّل نحو النضج".
أما مها، وهي سيدة في أواخر الثلاثينيات، فتتحدث عن اضطرابات الأكل التي لازمتها منذ المراهقة، حين كانت تتعرض للسخرية بسبب وزنها. لجأت إلى حبوب كبح الشهية، وبدأت رحلة قاسية مع الشعور بالذنب والخوف من الميزان، مما أثر على صحتها النفسية لعقود.
غياب الحوار.. أكبر التهديدات النفسية للمراهقين
تؤكد الدراسات النفسية أن أحد أبرز أسباب تفاقم الاضطرابات النفسية لدى المراهقين هو غياب الحوار المفتوح والصحي مع الأهل. ففي كثير من الأحيان، يخشى الأبناء من ردود الفعل العنيفة أو الاستخفاف بمشاعرهم، مما يدفعهم إلى الكتمان.
تقول الأخصائية النفسية نهاية الريماوي: "الصحة النفسية للمراهق تبدأ من شعوره بالأمان داخل بيئته الأسرية. إذا كان يشعر بأنه يستطيع الحديث بلا خوف أو أحكام، فإن ذلك يمنحه قوة داخلية لمواجهة الضغوط الخارجية".
وتحذر من بعض أنماط التربية الخاطئة، مثل المقارنة المستمرة أو التسلط الزائد، والتي قد تؤدي إلى اضطرابات نفسية طويلة الأمد. "ليس كل طفل أكاديميًّا، بعضهم يملكون مواهب اجتماعية أو فنية، ويجب أن نحتفي بها بدلاً من تهميشها"، تضيف الريماوي.
الحلول تبدأ بالوعي
لكي نحمي أبناءنا من مصير شهد وآلاف غيرها من المراهقين الذين يعانون في صمت، فإن أول خطوة تكمن في الاعتراف بوجود مشكلة، وكسر حاجز الصمت حول الصحة النفسية.
تشير الدراسات إلى أن إشراك المراهقين في حوارات مفتوحة، وتوفير بيئة منزلية داعمة، ومتابعة سلوكياتهم من غير تجسس أو ضغط، يمكن أن يحدث فارقًا كبيرًا. كما أن المدارس مطالبة بدورها بتعزيز الدعم النفسي، وتدريب المعلمين على ملاحظة الإشارات النفسية الخطيرة.
إن "الاكتئاب المبتسم" ليس خرافة، بل هو واقع يعيشه الكثير من أبنائنا. ووراء كل ضحكة مبالغ فيها، قد يكمن نداء استغاثة لا يُسمع. فهل سنصغي لهم قبل فوات الأوان؟
