بين التهديد بالجوع والعمليات العسكرية: إسرائيل تسمح بدخول مساعدات محدودة لغزة وسط انتقادات دولية وتصعيد ميداني
![]() |
بين التهديد بالجوع والعمليات العسكرية: إسرائيل تسمح بدخول مساعدات محدودة لغزة وسط انتقادات دولية وتصعيد ميداني |
مقدمة صوت الواقع
في خطوة وصفت بأنها "اضطرارية"، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن السماح بدخول ما وصفته بـ"كمية أساسية" من المساعدات الغذائية إلى قطاع غزة، في وقت تواصل فيه تل أبيب تنفيذ واحدة من أعنف العمليات العسكرية منذ بداية الصراع الأخير، تحت مسمى "عربات جدعون". جاء هذا الإعلان عبر بيان رسمي أصدره مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة لا تأتي بدافع إنساني بحت، بل في إطار "الحاجة العملياتية لتوسيع نطاق القتال ودحر حركة حماس".
ورغم أن بيان الحكومة الإسرائيلية حاول تصوير الخطوة على أنها ذات طابع إنساني، فإن القراءة المتأنية تكشف عن أبعاد سياسية وعسكرية أوسع، حيث تشكل هذه المساعدات عنصرًا تكتيكيًا في إدارة الصراع، لا سيما وسط تصاعد الانتقادات الدولية والضغوط الأممية بشأن الوضع الإنساني الكارثي في القطاع.
تصدير الأزمة الإنسانية
بيان مكتب نتنياهو تضمن تأكيدًا على أن هذه المساعدات ستُدار بطريقة "تمنع حماس من الاستفادة منها أو السيطرة عليها"، في إشارة واضحة إلى استمرار إسرائيل في فرض شروطها الصارمة على عملية توزيع المساعدات. وقال البيان أيضًا إن تفاقم أزمة الجوع قد يُهدد "العملية العسكرية"، في إشارة إلى أن المجاعة قد تخلق بيئة من الغضب الشعبي قد تستفيد منها حماس لتعزيز نفوذها، أو تؤدي إلى تدخلات دولية تعرقل تقدم الحملة الإسرائيلية.
وتأتي هذه الخطوة بعد تحذيرات أممية متكررة، كان آخرها تحذير منظمات الأمم المتحدة من أن أكثر من 2.1 مليون فلسطيني، عدد سكان قطاع غزة، يواجهون خطر المجاعة نتيجة الحصار المشدد ومنع دخول المساعدات لأكثر من 11 أسبوعًا متواصلة. هذا التحذير صدر في وقت تزايدت فيه التقارير حول وفيات بسبب الجوع في مناطق متفرقة من القطاع، لا سيما في شمال غزة، حيث تُحاصر آلاف العائلات دون ماء أو كهرباء أو طعام.
دور منظمة GHF ومخاوف من التسييس
وفي خضم هذا المشهد الإنساني المعقد، برز اسم مؤسسة "غزة الإنسانية" (GHF)، وهي منظمة أمريكية النشأة ومثيرة للجدل، أُسست بناءً على مقترحات من الإدارة الأمريكية بغرض تولي عملية توزيع المساعدات في القطاع، بما يتوافق مع الشروط الإسرائيلية. المنظمة التي تتلقى دعمًا لوجستيًا وسياسيًا من واشنطن، رحبت بالقرار الإسرائيلي واعتبرته "خطوة انتقالية مهمة" نحو تمكينها من مباشرة عملها بشكل كامل.
وأعلن المدير التنفيذي للمؤسسة، جيك وود، عن خطة لتدشين أربع نقاط توزيع "آمنة" خلال الأسابيع المقبلة، على أن يتم توسيعها لاحقًا. لكن هذه التصريحات لم تُطمئن الجهات الحقوقية والإنسانية، التي حذرت من خطورة أن تتحول المساعدات إلى أداة سياسية، تُستخدم للضغط على السكان أو إعادة هندسة توزيعهم الجغرافي.
اتهامات بالتشجيع على التهجير القسري
منظمة الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الإنسانية أعربت عن خشيتها من أن تتمركز نقاط توزيع المساعدات في جنوب ووسط القطاع فقط، الأمر الذي قد يُفهم ضمنيًا كتشجيع على تهجير سكان الشمال، وهو هدف طالما اتهمت إسرائيل بالسعي لتحقيقه. وفي هذا السياق، أوضحت GHF أنها طالبت إسرائيل بفتح نقاط في الشمال، لكن هذه الخطوة لم تُنفذ بعد، وسط صمت رسمي من تل أبيب.
الأمم المتحدة شددت كذلك على أن تدخل الجيش الإسرائيلي في عمليات تأمين نقاط التوزيع قد يؤدي إلى نتائج عكسية، أبرزها تخويف المدنيين ومنعهم من التوجه لاستلام المساعدات، ما يعني أن "العمل الإنساني" بات محاصرًا بالأسلاك الشائكة والأسلحة، وفاقدًا لطابعه المحايد.
أصوات معارضة داخل الحكومة الإسرائيلية
من الداخل الإسرائيلي، لم يكن القرار موحدًا، فقد وصف إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي المتطرف، السماح بدخول المساعدات بأنه "خطأ جسيم"، معتبرًا أن أي طعام يدخل إلى غزة سينتهي إلى "أيدي الإرهابيين". هذه التصريحات تُعبّر عن الانقسام داخل الحكومة اليمينية المتشددة في كيفية التعامل مع غزة، خاصة في ظل ضغط الرأي العام الإسرائيلي المتعطش لـ"نصر حاسم" عقب أحداث 7 أكتوبر.
الرهائن على الطاولة مجددًا
في سياق متصل، حاولت إسرائيل ربط العملية العسكرية الجديدة بمسألة الرهائن المحتجزين لدى حماس، حيث أكد الجيش أن عمليته الجارية تجري "بالتنسيق الكامل" مع منتدى عائلات الرهائن، في محاولة لمنع تكرار ما وُصف بـ"الأخطاء الميدانية" التي أضرت بأمن المحتجزين.
غير أن المنتدى نفسه رفض هذه الرواية، وأصدر بيانًا اعتبر فيه العملية تهديدًا مباشرًا لحياة الرهائن، حيث قال هاجاي ليفين، رئيس اللجنة الطبية التابعة للمنتدى: "السياسة الحالية تعني قتل الأحياء ومحو الأموات". وأضاف: "كل دقيقة تأخير، وكل غارة جوية، تعني خطرًا جديدًا على حياة الرهائن".
تصعيد ميداني وسقوط ضحايا بالجملة
بالتزامن مع إعلان إدخال المساعدات، شنّ الجيش الإسرائيلي عملية برية وجوية واسعة في شمال وجنوب غزة، أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص خلال ساعات، بحسب وزارة الصحة في غزة. وقد أغلقت هذه الحملة آخر مستشفى عامل في شمال القطاع، وهو المستشفى الإندونيسي، وسط انهيار تام في النظام الصحي، ونقص حاد في الأدوية والطواقم الطبية.
وزارة الصحة الفلسطينية أكدت أن أكثر من 53 ألف فلسطيني قُتلوا منذ بداية الحرب، معظمهم من النساء والأطفال، فيما أفادت تقارير عن مقتل عائلات بأكملها نتيجة قصف منازلهم خلال نومهم.
مفاوضات متعثرة رغم التحركات الدولية
وسط هذا التصعيد، بدأت حماس وإسرائيل محادثات غير مباشرة في العاصمة القطرية الدوحة. ورغم وجود بوادر إيجابية أولية، إلا أن الخلافات لا تزال كبيرة. ففي حين تطرح إسرائيل إنهاء الحرب مقابل استسلام حماس، تعتبر الأخيرة أن هذا الطرح مرفوض، وأعلنت استعدادها لإطلاق سراح الرهائن ضمن صفقة تبادل تشمل وقفًا دائمًا للعدوان، بضمانات دولية.
وفي هذا السياق، نفى القيادي في حماس سامي أبو زهري الأنباء التي تحدثت عن اتفاق قريب، مؤكدًا أن الحركة لن تُسلّم أي رهائن دون وقف شامل لإطلاق النار، مضيفًا أن الاحتلال "يراوغ ويتهرب" من استحقاقات التهدئة.
ضغوط أمريكية وتحركات من ترامب
من جهة أخرى، أُثيرت تساؤلات حول دور الولايات المتحدة، لا سيما بعد زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الدوحة، ولقاءاته مع المسؤولين القطريين. ورغم أن ترامب لم يزر إسرائيل، إلا أن مصادر كشفت أنه ناقش ترتيبات خاصة بقطاع غزة، بما في ذلك فكرة أن تتحول إلى "منطقة حرية" بإشراف أمريكي، وهي فكرة أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية العربية والدولية.
ختام
بينما تُطلق إسرائيل يدها في غزة تحت غطاء "الأمن القومي"، وبينما تجري مفاوضات متقطعة في غرف مغلقة، يبقى المدنيون الفلسطينيون هم الحلقة الأضعف، يدفعون ثمن صراع تتعدد فيه الأطراف والمصالح. وبين قصف المستشفيات، ومنع الغذاء، وتسييس المساعدات، تبدو المأساة مرشحة للتفاقم، ما لم يتحرك المجتمع الدولي لوضع حد فوري لهذا المسار الكارثي.
