تخفيضات محتملة على رسوم قناة السويس: تحرك مصري لإنقاذ الشريان الملاحي من تداعيات التوترات الإقليمية
مقدمة صوت الواقع: "قناة السويس تحت الضغط".. والملاحة العالمية تعيد حساباتها
في ظل تصاعد التحديات الجيوسياسية بمنطقة البحر الأحمر، تتجه هيئة قناة السويس إلى اتخاذ قرار استثنائي قد يُحدث فرقًا ملموسًا في حركة الملاحة البحرية التي تضررت بشكل بالغ خلال الأشهر الماضية. رئيس الهيئة، الفريق أسامة ربيع، كشف في تصريحات إعلامية أن الهيئة بصدد دراسة تطبيق تخفيض يتراوح ما بين 12% و15% على رسوم عبور القناة، وذلك بهدف إعادة جذب السفن التي اختارت طرقًا بديلة هروبًا من المخاطر الأمنية المتزايدة في البحر الأحمر.
هذه الخطوة تأتي في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتكبد مصر، وخصوصًا قطاع النقل البحري، خسائر فادحة نتيجة تراجع إيرادات القناة، والتي تُعد أحد الأعمدة الرئيسية في دعم احتياطي النقد الأجنبي بالبلاد.
الهجمات الحوثية... السبب المباشر لتراجع الإيرادات
وفقًا لما تم الإعلان عنه، فإن المسبب الرئيسي لهذا التراجع هو الهجمات المتكررة التي تشنها جماعة الحوثي اليمنية على السفن العابرة في البحر الأحمر، تحديدًا تلك المتجهة نحو الموانئ الإسرائيلية أو التابعة لمصالح غربية. الحوثيون يبررون هذه الهجمات بأنها تأتي ضمن موقفهم السياسي المناصر للفلسطينيين في غزة، إلا أن تأثير هذه العمليات امتد ليشمل سفنًا تجارية لا علاقة مباشرة لها بإسرائيل، مما دفع العديد من خطوط الشحن الكبرى إلى إعادة توجيه مساراتها نحو رأس الرجاء الصالح، رغم أن ذلك يزيد من مدة الرحلات وتكلفتها.
وقد أصبحت قناة السويس، التي كانت لفترة طويلة الخيار الأسرع والأكثر كفاءة بين آسيا وأوروبا، تُعتبر اليوم نقطة مرور محفوفة بالمخاطر من قبل العديد من الشركات المالكة والوكالات البحرية، الأمر الذي انعكس بوضوح في تراجع العائدات.
إيرادات القناة تحت المجهر: أرقام تكشف حجم الأزمة
الإحصائيات المتوفرة تشير إلى تراجع إيرادات قناة السويس بشكل حاد خلال الربع الأخير من العام الماضي، حيث هبطت إلى حوالي 880.9 مليون دولار، مقارنة بـ2.4 مليار دولار لنفس الفترة من العام السابق. هذا التراجع الحاد يُعد جرس إنذار حقيقي، ويدفع الجهات المسؤولة داخل مصر لاتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على مكانة القناة كممر تجاري دولي لا يمكن الاستغناء عنه.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن التخفيض المزمع لرسوم العبور ليس مجرد مبادرة مالية، بل هو قرار استراتيجي يستهدف استعادة ثقة القطاع الملاحي الدولي في القناة.
خصم قد يُحدث فارقًا: ما بين الحسابات الاقتصادية والسياسية
رئيس الهيئة أوضح أن القرار النهائي بتطبيق هذا التخفيض لا يزال بانتظار موافقة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، ومن المتوقع دخوله حيّز التنفيذ خلال أيام قليلة. وهو ما يعكس إدراكًا حكوميًا لحساسية المرحلة، وضرورة الاستجابة السريعة للمتغيرات الإقليمية والدولية.
من المتوقع أن يُحدث هذا الخصم فارقًا ملحوظًا في كلفة المرور عبر القناة، مما قد يعيد جذب جزء من السفن التي فضلت الابتعاد مؤقتًا عن هذا المسار الحيوي. خصوصًا وأن الشركات البحرية باتت تتكبد نفقات إضافية ضخمة، منها ارتفاع تكاليف التأمين عند المرور بمنطقة البحر الأحمر، والتي صُنّفت حاليًا كمنطقة عالية المخاطر.
القطاع الملاحي يطالب بمزيد من الحوافز المؤقتة
في الأسبوع الماضي، عقد الفريق أسامة ربيع اجتماعًا مهمًا مع ممثلين عن كبرى وكالات الشحن والملاحة، حيث تمت مناقشة السيناريوهات الممكنة لإنعاش حركة السفن عبر القناة. وقد طالب الحاضرون بتقديم حوافز مؤقتة، تشمل التخفيضات والتسهيلات التشغيلية، في محاولة لتخفيف الأعباء التي فرضتها الأزمة الأمنية الأخيرة على القطاع.
هذا التفاعل الإيجابي من جانب الهيئة يُعد إشارة واضحة على مرونة الإدارة المصرية في التعامل مع الأزمات، وسعيها للحفاظ على القناة كأحد أبرز مصادر الدخل القومي.
اتفاق أميركي-حوثي... ولكن ماذا عن السفن الإسرائيلية؟
الملفت في هذا السياق، هو الإعلان عن اتفاق تهدئة تم التوصل إليه مؤخرًا بين الولايات المتحدة والحوثيين، بوساطة عُمانية، ويقضي بوقف الضربات الجوية المتبادلة مقابل التوقف عن استهداف السفن الأميركية. إلا أن الاتفاق لا يشمل السفن الإسرائيلية أو المتوجهة إلى إسرائيل، وهو ما يجعل الممر البحري بين باب المندب وقناة السويس لا يزال عرضة للتوتر.
هذا الواقع يزيد من تعقيد الموقف، إذ تجد مصر نفسها وسط توازنات جيوسياسية يصعب التحكم بها، لكنها مطالبة في الوقت ذاته بالحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
الرهان على استعادة الثقة
من المرجح أن تعوّل مصر في المرحلة القادمة على عنصر الثقة، سواء من خلال تعزيز الأمن البحري في نطاق القناة، أو من خلال تقديم تسهيلات تنافسية تُعيد للقناة جاذبيتها. فالطرق البديلة، رغم أنها تُجنب السفن المخاطر الأمنية، إلا أنها لا تزال مكلفة من حيث الوقت والوقود.
تقديم خصم نسبي قد لا يعوّض تمامًا مخاطر المرور، لكنه بالتأكيد قد يشجع السفن التي لم تكن مستهدفة بشكل مباشر من قبل الحوثيين على العودة مجددًا إلى القناة، خاصة تلك القادمة من آسيا والتي تبحث دائمًا عن خيارات أكثر اختصارًا.
أخيرا: التحديات مستمرة... لكن القناة باقية
رغم الظروف المعقدة التي تمر بها قناة السويس، تبقى حقيقة واحدة ثابتة: القناة تظل أحد أهم الممرات البحرية في العالم، وركيزة أساسية في معادلة التجارة العالمية. وقد أثبتت مصر، على مدار عقود، أنها قادرة على تجاوز التحديات، سواء من خلال تطوير البنية التحتية للمجرى الملاحي، أو عبر الاستجابة السريعة للمتغيرات الدولية.
التخفيض المرتقب في الرسوم ليس نهاية المطاف، بل هو بداية مرحلة جديدة من التكيف مع الواقع، ومحاولة استباقية لإعادة تموضع القناة في قلب حركة التجارة العالمية، رغم كل ما تشهده المنطقة من اضطرابات.
