قمة بغداد العربية: حضور محدود ورسائل قوية في زمن الانقسامات والتحديات
مقدمة صوت الواقع
في لحظة تاريخية مشبعة بالرمزية، انعقدت القمة العربية الرابعة والثلاثون، إلى جانب القمة التنموية الخامسة، في قلب العاصمة العراقية بغداد، وسط أجواء سياسية وأمنية دقيقة، وحضور متواضع على مستوى القادة والزعماء، مقابل غياب واضح لأغلب رؤساء الدول العربية، ما ألقى بظلال من التساؤلات حول شكل التضامن العربي في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة.
رغم الإعداد المكثف والتجهيزات الأمنية والإعلامية التي سبقت انطلاق أعمال القمة، إلا أن الواقع على الأرض حمل مشهداً مغايراً، عكس جزئياً حال التشرذم العربي، وحجم التحديات التي تواجه النظام الإقليمي العربي، بدءاً من النزاعات المسلحة، مروراً بالأزمات الاقتصادية، وصولاً إلى الانقسام في المواقف تجاه القضايا الجوهرية، وعلى رأسها الملف الفلسطيني.
مشاركة رمزية في لحظة مصيرية
شارك في القمة خمسة فقط من رؤساء وقادة الدول العربية، يتقدمهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، إلى جانب رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي. أما باقي الدول، فقد اختارت إرسال ممثلين على مستويات دبلوماسية متباينة، من وزراء إلى نواب رؤساء، في غياب واضح لكثير من الوجوه البارزة في المشهد العربي.
وكان لافتًا أن قادة الدول الخليجية، باستثناء قطر، اختاروا الغياب، وهو ما أضعف من الثقل السياسي الذي عادةً ما تُضفيه مشاركتهم على مثل هذه القمم. كما غاب كل من ملك الأردن، ورؤساء الجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان، إضافة إلى رئيس مجلس الرئاسة الليبي، وهو الغياب الذي حمل دلالات سياسية لم تغب عن أعين المتابعين.
السيسي: لا حجر بقي في غزة ولا حق ضاع بالتقادم
أمام هذا الحضور العربي المتفاوت، كانت كلمات بعض القادة المشاركين بمثابة رسائل مباشرة للعالم، وعلى رأسها كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، التي خيمت عليها أجواء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. تحدث السيسي بلغة واضحة، قائلاً إن ما يحدث في القطاع ليس سوى تدمير شامل طال البشر والحجر، ولم يرحم طفلاً أو شيخاً، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية.
وأوضح السيسي أن السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين لم تقتصر على غزة فقط، بل امتدت إلى الضفة الغربية، حيث تُمارس آلة الاحتلال ذات الأساليب القمعية من قتل وتجريف وهدم منازل. وأضاف أن الشعب الفلسطيني، رغم كل ما يتعرض له، لا يزال صامداً، متمسكًا بحقه المشروع في إقامة دولته على أرضه.
رسالة السيسي كانت بمثابة مناشدة جماعية للموقف العربي أن يتوحد، وأن تتخذ القمة موقفاً فعّالاً يتجاوز البيانات الإنشائية إلى قرارات تُحدث تغييراً حقيقياً في الواقع الفلسطيني، وتُشكّل ضغطاً دوليًا ملموسًا على إسرائيل.
بغداد: مدينة السلام تحتضن العرب مجددًا
من جهة أخرى، كانت عودة بغداد لاستضافة القمة العربية حدثاً بحد ذاته، بالنظر إلى أن آخر مرة استضافت فيها العاصمة العراقية هذا الحدث كانت قبل أكثر من عقد، وتحديدًا في عام 2012، في أجواء كانت حينها ملبدة بأزمات ما بعد الغزو الأميركي وتداعيات الحرب الطائفية.
لكن هذه المرة، حرصت الحكومة العراقية على أن تعكس صورة مغايرة، فأصدرت توجيهات بعدم ظهور أي مظاهر مسلحة في الشوارع، عدا التواجد المحدود لشرطة المرور والقوات النظامية، في مسعى لإظهار نوع من الاستقرار الأمني والسياسي الذي بدأ العراق يستعيده تدريجيًا، رغم التحديات الكبيرة التي ما زالت تعصف ببعض مناطقه.
الإجراءات الأمنية التي اتخذتها بغداد كانت أكثر انفتاحًا ومرونة مقارنة بما حدث في قمة 2012، التي شهدت آنذاك فرض حظر شامل للتجوال وانتشاراً كثيفًا لقوات الأمن، ما كان يعكس حالة من التوتر وعدم الاستقرار. اليوم، تسعى بغداد لإرسال رسالة مختلفة إلى العواصم العربية والعالم، مفادها أن العراق يعود إلى دوره الطبيعي في محيطه العربي، بوصفه مركزًا للقاء لا ساحة صراع.
الرسائل الغائبة: غياب القادة أم غياب التضامن؟
رغم أهمية القمة من حيث التوقيت والمكان، إلا أن الحضور المحدود للزعماء العرب ترك تساؤلات مشروعة حول قدرة النظام العربي الرسمي على التماسك في مواجهة الأزمات، خاصة مع تعدد الملفات الساخنة التي تطوق المنطقة، من فلسطين إلى السودان، ومن اليمن إلى سوريا ولبنان.
غياب قادة دول محورية مثل السعودية والإمارات والجزائر وسوريا، طرح تساؤلات حول عمق التوافق العربي على الرؤية المستقبلية للمنطقة، وإلى أي مدى لا تزال الجامعة العربية قادرة على أن تلعب دور الوسيط أو الحاضن الجماعي للتوافقات، لا سيما في ظل انكفاء كثير من الدول على قضاياها الداخلية، وتباين الاصطفافات الإقليمية والدولية.
وبدا جليًا أن الغياب لا يعكس فقط ارتباطات أو انشغالات بروتوكولية، بل هو مؤشر لعدم التوافق حول ملفات حساسة لا تزال عالقة دون حلول، وعلى رأسها تطبيع بعض الدول مع إسرائيل، والعلاقات العربية-الإيرانية، وملفات إعادة الإعمار في سوريا واليمن، ودور القوى الخارجية في الشأن العربي.
التنمية الحاضرة في القمة التنموية... ولكن؟
القمة التي حملت أيضاً صفة "التنموية"، كانت من المفترض أن تركز على الملفات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية في العالم العربي، مثل الأمن الغذائي، تغير المناخ، الطاقة المتجددة، التعليم، والتحول الرقمي. لكن تصاعد الأزمات الجيوسياسية، وخاصة العدوان على غزة، طغى على الأجندة، فكان من الصعب فصل البُعد التنموي عن السياق السياسي المتأزم.
وبرغم بعض الطروحات والمبادرات الاقتصادية التي طُرحت من قبل ممثلي الدول، إلا أن التحدي الحقيقي يظل في التنفيذ على الأرض. فبدون مناخ سياسي مستقر وتنسيق حقيقي بين العواصم، تظل هذه المشاريع حبيسة المذكرات والملفات الورقية، دون أن تلامس الواقع العربي المتعطش إلى التنمية الحقيقية.
ختام القمة: رسائل الأمل وسط السكون السياسي
مع اختتام أعمال القمة، بدت المخرجات تقليدية إلى حد ما، من حيث البيان الختامي والتوصيات المعتادة التي تكرر الدعم للقضية الفلسطينية، والدعوة إلى حل سياسي في اليمن وسوريا، والتأكيد على أهمية الوحدة العربية. لكن الواقع أن حضور خمس قادة فقط من أصل 22، جعل وقع البيان أخف مما كان يُؤمل.
وبينما كانت بغداد تحاول إحياء روح القمم العربية الكلاسيكية، فإن الحضور المتواضع والغياب اللافت أعاد التأكيد على أن العالم العربي لا يزال يبحث عن مشروع موحد، وهوية جامعة، وقيادة قادرة على رسم طريق للخروج من عنق الزجاجة.
القمة القادمة... هل من أمل؟
يُنتظر أن تكون القمة القادمة بمثابة اختبار حقيقي لقدرة النظام العربي على إعادة بناء نفسه في ضوء المتغيرات العالمية، من تحولات في خارطة التحالفات، إلى أزمات اقتصادية تهدد الاستقرار في عدد من العواصم.
لكن قبل كل شيء، يجب أن يسبق هذه القمم إرادة سياسية واضحة في لمّ الشمل، والتخلي عن الحسابات الضيقة، وتقديم المصلحة العربية العليا على كل ما عداها.
فالعرب، رغم تفرقهم اليوم، لا يزالون قادرين على صناعة مستقبلهم بأيديهم، إذا ما اجتمعوا حول كلمة سواء، ورؤية واحدة، وأدركوا أن الوحدة لم تعد خيارًا، بل ضرورة وجودية.
.png)