وكالة موديز تهز الثقة: خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة يشعل جدلاً سياسياً واقتصادياً
![]() |
وكالة موديز تهز الثقة: خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة يشعل جدلاً سياسياً واقتصادياً |
مقدمة صوت الواقع
في خطوة تحمل في طياتها رسائل اقتصادية عميقة وتحذيرات مبطنة، خفضت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني تصنيف الولايات المتحدة الأميركية من الدرجة العليا "Aaa" إلى "Aa1"، في قرار فاجأ بعض الأوساط، بينما أكّد مخاوف كثيرين من تفاقم التحديات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاد الأميركي.
ورغم أن هذا التخفيض لا يُخرج الولايات المتحدة من خانة الدول الموثوقة استثماريًا، إلا أنه يُعد ضربة رمزية إلى عمق الثقة بالسياسات المالية الأميركية، وهو ما أثار ردود فعل متباينة داخل البيت الأبيض والمؤسسات الاقتصادية، كما أجّج السجال السياسي قبيل عام انتخابي محوري في الولايات المتحدة.
بداية التشكيك في "الجدارة الائتمانية الأميركية"
أوضحت "موديز"، وهي واحدة من أبرز وكالات التصنيف المالي العالمية، أن قرارها يستند إلى عدة مؤشرات، أهمها ارتفاع حجم الدين الأميركي إلى مستويات تاريخية، وكذلك الزيادة الكبيرة في تكاليف الفائدة التي تدفعها الحكومة الفيدرالية، وهو ما يجعل وضع الولايات المتحدة "أقل تماسكًا" مقارنة بدول أخرى تحتفظ بنفس التصنيف السابق.
وأضافت الوكالة في بيانها أن "الإدارات الأميركية المتعاقبة، سواء ديمقراطية أو جمهورية، فشلت في كبح جماح العجز المالي المزمن"، مؤكدة أن غياب الإرادة السياسية في واشنطن لتبني إصلاحات هيكلية حقيقية يهدد استدامة الوضع المالي للدولة على المدى المتوسط والبعيد.
تكرار سيناريوهات "سقف الدين"
ويأتي قرار موديز بعد أشهر قليلة من تخفيض مماثل أجرته وكالة "فيتش" في أغسطس 2023، حين خفّضت تصنيف الولايات المتحدة على خلفية المماطلة السياسية في التوصل لاتفاق بشأن رفع سقف الدين، وهي أزمة تكررت أكثر من مرة في العقد الأخير، وتسببت في ارتباك الأسواق، وتهديد مصداقية الدولة الأكبر في العالم اقتصاديًا.
وتُعد أزمة "سقف الدين" واحدة من أكثر الظواهر تعبيرًا عن الانقسام السياسي في الولايات المتحدة، حيث يستخدمها كل حزب كأداة ضغط في مواجهة الآخر، ما يؤدي إلى تأجيلات ومساومات قد تدفع باقتصاد الدولة نحو حافة التخلف عن سداد الديون، ولو بشكل مؤقت.
البيت الأبيض يرد بعنف
الرد من جانب الإدارة الأميركية لم يتأخر، بل جاء سريعًا وغاضبًا. فقد وصف البيت الأبيض قرار موديز بأنه غير مبرر ومسيّس، معتبرًا أن الوكالة تجاهلت الكثير من المؤشرات الإيجابية التي يُظهرها الاقتصاد الأميركي، وفي مقدمتها استمرار النمو، وانخفاض معدلات البطالة، وقوة سوق العمل.
وفي ردٍّ مثير للجدل، استخدم مدير الاتصالات في البيت الأبيض، ستيفن تشيونغ، لهجة هجومية غير معتادة، حيث اتهم الخبير الاقتصادي في موديز، مارك زاندي، بالتحيز السياسي، قائلًا: "إنه خصم سياسي للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتحليلاته فقدت مصداقيتها منذ زمن". وأضاف: "لا أحد يأخذ توقعاته على محمل الجد، وقد ثبت خطؤه مرارًا".
هذا التصريح يعكس عمق التوتر القائم بين مؤسسات التصنيف من جهة، والحكومات من جهة أخرى، إذ ترى بعض الإدارات أن هذه الوكالات لا تأخذ بعين الاعتبار الديناميات السياسية والاجتماعية عند إصدار تقييماتها، بينما تعتبر الوكالات نفسها أنها تقوم بدورها الرقابي والحيادي.
قراءة في خلفيات القرار: هل الاقتصاد الأميركي في خطر؟
على الرغم من أن تخفيض التصنيف لا يعني إفلاس الولايات المتحدة أو توقفها عن الوفاء بالتزاماتها، إلا أن له دلالات خطيرة. فهو يشير إلى تراجع قدرة الحكومة الفيدرالية على ضبط ماليتها، ويفتح الباب أمام رفع تكاليف الاقتراض، مما يزيد من عبء الدين العام الذي تجاوز 33 تريليون دولار في 2024، وفق آخر الإحصاءات الرسمية.
كما أن المستثمرين الدوليين، خاصة في الصين واليابان -اللتين تعتبران من أكبر حاملي السندات الأميركية– قد يعيدون حساباتهم بشأن المخاطر المرتبطة بالأصول الأميركية، مما قد يؤثر على تدفق رؤوس الأموال.
ويؤكد خبراء اقتصاديون أن استمرار العجز المالي الأميركي، في ظل التوسّع في الإنفاق العسكري والاجتماعي، دون إصلاحات ضريبية حقيقية، سيؤدي إلى ما يشبه "القنبلة المؤجلة"، التي قد تنفجر خلال عقد أو أقل، في شكل أزمة ديون كبيرة.
هل هي سابقة؟ التاريخ يعيد نفسه
الجدير بالذكر أن هذا ليس أول تخفيض للتصنيف الائتماني الأميركي. ففي عام 2011، خفّضت وكالة "ستاندرد آند بورز" تصنيف الولايات المتحدة لأول مرة في التاريخ من "AAA" إلى "AA+"، وهو ما أحدث حينها صدمة في الأسواق المالية العالمية.
ومنذ ذلك الحين، ظل الجدل قائمًا حول مدى استقلالية وكالات التصنيف، وحول تأثير قراراتها على الأسواق، خاصة أن بعضها كان له دور في تفاقم الأزمة المالية العالمية عام 2008، حين منحت تصنيفات عالية لمؤسسات مالية ثبت لاحقًا أنها كانت على حافة الانهيار.
التصنيف الائتماني: أداة رقابة أم سلاح سياسي؟
يدفعنا هذا الجدل إلى طرح سؤال أعمق: هل التصنيف الائتماني أداة حيادية لتقييم الجدارة المالية، أم أنه أصبح يُستخدم كسلاح سياسي بين المؤسسات الاقتصادية والدول؟
في حالات عديدة، اتُهمت وكالات التصنيف بأنها تُجامل بعض الدول الكبرى على حساب دول أخرى، أو أنها تعتمد على معايير غير متجانسة. وفي حالة الولايات المتحدة، يبدو أن الخلاف ليس فقط حول الأرقام، بل حول "من يملك رواية الاقتصاد" في بلد يشهد استقطابًا سياسيًا غير مسبوق.
ففي حين ترى إدارة بايدن أن الاقتصاد في "أقوى حالاته منذ سنوات"، تشير مؤسسات التصنيف إلى أن الأرقام لا تعكس الحقيقة الكاملة، خصوصًا مع استمرار التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، وتباطؤ بعض المؤشرات الصناعية.
انعكاسات عالمية: الثقة تهتز في الملاذ الآمن
تتمتع الولايات المتحدة، منذ الحرب العالمية الثانية، بصفة "الملاذ الآمن" للمستثمرين، بفضل قوة عملتها ومتانة مؤسساتها. لكن أي تصدع في الثقة بهذه الجدارة الائتمانية، ولو كان رمزيًا، ينعكس على الأسواق العالمية بأكملها.
وقد بدأت الأسواق العالمية تراقب بحذر هذا التطور، مع تزايد المخاوف من موجة تخفيضات محتملة في تصنيف عدد من الدول الكبرى الأخرى التي تعاني من نفس الأعراض: تضخم، دين مرتفع، وعجز هيكلي.
نظرة مستقبلية: بين التصحيح والمواجهة
في ظل هذه المعطيات، تبقى الولايات المتحدة أمام خيارين: إما أن تتخذ قرارات صعبة لإصلاح ماليتها العامة، تشمل إعادة هيكلة النظام الضريبي والإنفاق، أو أن تواصل تجاهل التحذيرات، ما قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في مكانتها الاقتصادية العالمية.
كما أن إدارة بايدن مطالبة بتقليل حدة المواجهة مع المؤسسات الاقتصادية، والرد عليها بمبادرات إصلاحية واقعية، بدلًا من الدخول في معارك كلامية قد تُفقد الحكومة مصداقيتها أمام الداخل والخارج.
خاتمة: درس أميركي للعالم
يؤكد قرار "موديز" مجددًا أن حتى أكبر الاقتصادات وأكثرها استقرارًا ليست بمنأى عن التقويم والمساءلة. فالاقتصاد العالمي مترابط، والثقة عنصر أساسي فيه، وإذا ما بدأت تتزعزع، فإن التداعيات قد تكون أوسع وأعمق مما يتوقعه صانعو القرار.
في النهاية، فإن ما يحدث في الولايات المتحدة لا يخصها وحدها، بل هو مؤشر على اتجاهات النظام الاقتصادي العالمي بأسره. وإذا كان الدرس موجهًا إلى واشنطن اليوم، فإنه يهم عواصم أخرى قد تجد نفسها غدًا أمام قرارات مشابهة، ما لم تبدأ بإصلاح حقيقي ومستدام.
