المهرجان القومي للمسرح المصري يُكرم "سيدة المسرح العربي": سميحة أيوب اسمًا للمسابقة الرسمية
مقدمة صوت الواقع
في بادرة تحمل الكثير من المعاني الرمزية والوفاء لتاريخ فني استثنائي، أعلن المهرجان القومي للمسرح المصري عن إطلاق اسم الفنانة الراحلة سميحة أيوب على المسابقة الرسمية للعروض المسرحية، وذلك في خطوة تُعد من أبرز قرارات الدورة الثامنة عشرة للمهرجان. هذا القرار الذي جاء بإجماع اللجنة العليا للمهرجان، يعكس إدراكًا عميقًا بقيمة الأسماء المؤسسة للمسرح المصري، وسعيًا مستمرًا لتخليد من صنعوا مجده ورفعوا رايته لعقود طويلة.
سميحة أيوب.. من ممثلة شابة إلى أيقونة مسرحية خالدة
لم تكن سميحة أيوب مجرد فنانة على خشبة المسرح، بل كانت روحًا تُجسّد هذا الفن، وتجربة استثنائية تمتد عبر أكثر من نصف قرن من العطاء المتواصل. وُلدت في زمن لم يكن فيه المسرح مجرد وسيلة للترفيه، بل كان ساحة لصناعة الوعي والهوية الثقافية، فاستطاعت أن تتبوأ مكانة فريدة لا ينازعها فيها أحد، حتى استحقت عن جدارة لقب "سيدة المسرح العربي".
منذ بداياتها الفنية، أظهرت أيوب نزعة فنية مختلفة، تجمع بين القوة في الأداء والعمق في التعبير، وكانت اختياراتها المسرحية انعكاسًا لموقف فكري وثقافي يؤمن بدور الفن في التنوير والتغيير. ولعلّ هذا هو السر الذي جعلها ليست مجرد ممثلة تُصنف ضمن الأسماء الكلاسيكية، بل رمزًا ثقافيًا له امتداد في الوجدان الجمعي العربي.
مسرحها.. مرآة لزمن وتاريخ
قدّمت سميحة أيوب عددًا من العروض المسرحية التي أصبحت علامات فارقة في تاريخ المسرح المصري، منها مسرحيات مثل "سكة السلامة"، "الفتى مهران"، و"دماء على ستار الكعبة"، حيث استطاعت من خلالها أن تؤكد أن المسرح ليس فقط نصًا مكتوبًا يُترجم على الخشبة، بل هو حياة متكاملة تتطلب إخلاصًا وتفرغًا والتزامًا لا يشوبه تردد.
عملها لم يقتصر على التمثيل فحسب، بل تعدى ذلك إلى الإخراج والإدارة المسرحية، حيث تولت مناصب حساسة مثل إدارة المسرح القومي، وكانت من بين أولى النساء في العالم العربي اللواتي خضن هذا الميدان الإداري في مؤسسة ثقافية رسمية. تركت بصمات عميقة في تطوير الفرق المسرحية، واهتمت باكتشاف المواهب وتدريب الأجيال الجديدة، ما جعلها لا تكتفي بأن تكون نجمة، بل كانت أيضًا صانعة للنجوم.
قرار المهرجان.. تخليد للقيمة والبصمة
قرار إطلاق اسم سميحة أيوب على المسابقة الرسمية للعروض المسرحية لا يأتي من فراغ، بل يمثل امتدادًا لنهج يسعى المهرجان من خلاله إلى الحفاظ على جذور الفن المسرحي الوطني، وتأكيد دوره كمؤسسة ليس فقط لعرض الأعمال الفنية بل لحفظ ذاكرة المسرح المصري.
هذا التكريم يضع سميحة أيوب في موقعها الطبيعي، بين الكبار الذين يظل حضورهم ممتدًا بعد الرحيل، ويمنح الأجيال الشابة من المسرحيين فرصة للاطلاع على إرث مسرحي غني بالخبرة والقيمة. وبحسب ما صرح به الفنان محمد رياض، رئيس الدورة الحالية للمهرجان، فإن هذه الخطوة تأتي "وفاءً لتاريخها الطويل وعطائها المسرحي المميز"، وهي بمثابة رسالة بأن هذا الفن لا ينسى أبناءه الأوفياء.
المهرجان القومي.. ساحة لتكريم الرموز وتأصيل الهوية
يُعد المهرجان القومي للمسرح المصري، والذي تنظمه وزارة الثقافة سنويًا، من أبرز الفعاليات المسرحية المحلية، حيث يجمع تحت مظلته طيفًا واسعًا من الفرق والمؤسسات، سواء كانت تابعة للدولة أو فرقًا مستقلة، جامعية، أهلية، أو تابعة للقطاع الخاص.
هدف المهرجان لم يكن يومًا مجرد المنافسة أو توزيع الجوائز، بل كان دائمًا منصة للحوار الفني والإبداعي، ومجالًا لاستكشاف الطاقات الشابة، والاحتفاء بالتجارب الجادة، وتوثيق مسار المسرح المصري. ومن خلال إحياء ذكرى رواده، يعمل المهرجان على تأصيل الثقافة المسرحية في المجتمع، وتثبيت القيم الجمالية التي تمثل جوهر هذا الفن.
وفي دورته الثامنة عشرة، يخطو المهرجان خطوة متقدمة نحو تكريس الذاكرة المسرحية، عبر تحويل أسماء رموزه إلى عناوين لجوائزه ومكوناته الأساسية، لتبقى هذه الأسماء حيّة في ضمير الحركة المسرحية.
سميحة أيوب: التقدير بعد الرحيل
رحلت الفنانة سميحة أيوب عن عالمنا منذ أيام، لكنها تركت خلفها رصيدًا ضخمًا من الأعمال والذكريات والمواقف. حصلت خلال حياتها على أرفع الأوسمة والجوائز، مثل وسام الجمهورية من الطبقة الأولى، وجائزة الدولة التقديرية، ولم تكن تلك الجوائز مجرد رمزية، بل كانت انعكاسًا لإجماع وطني على قيمتها ومكانتها.
تكريمها بعد الرحيل من خلال هذا القرار لا يعيد شيئًا مما فقدناه، لكنه بالتأكيد يُعيد توجيه البوصلة نحو ما يجب أن يُحتفى به. ففي زمن تتسارع فيه الوجوه وتختلط فيه القيم، يظل المسرح بحاجة ماسة إلى رموز تُمثل الاتزان والاحترافية والتجذر في الهوية، وسميحة أيوب كانت إحدى هذه العلامات.
انعكاسات القرار على المشهد المسرحي المصري
اختيار اسم فنانة بحجم سميحة أيوب ليكون عنوانًا للمسابقة الرسمية للعروض المسرحية، قد يخلق دافعًا إضافيًا لدى المشاركين لتقديم أعمال أكثر عمقًا وارتقاءً. فحين يُصبح اسم المسابقة مرتبطًا بتاريخ غني بهذا الشكل، فإن سقف التوقعات يرتفع، والحافز للتميز يتضاعف.
من جهة أخرى، فإن هذا القرار قد يُلهم القائمين على المهرجانات الثقافية الأخرى في مصر والعالم العربي، ليعتمدوا ذات النهج في تكريم الرموز التي أسهمت في بناء ذاكرة الفن العربي.
نحو ذاكرة مسرحية حيّة
من الأمور التي تعاني منها الحركة الفنية أحيانًا هو النسيان السريع. كم من الفنانين الكبار رحلوا، ولم يتم الاحتفاء بهم إلا ببضع كلمات أو تكريمات شكلية. لكن تحويل الأسماء إلى جزء من التكوين المؤسسي لأي فعالية فنية، كما فعل المهرجان القومي، هو خطوة ذكية باتجاه الحفاظ على الذاكرة الجماعية.
فهذه الذاكرة ليست مجرد تاريخ، بل هي بوصلة توجه الحاضر وتلهم المستقبل. وسميحة أيوب، بهذا القرار، لا تُكرم فقط، بل تتحول إلى "مرجعية"، إلى حضور دائم في كل دورة، وفي كل عرض، وفي كل عمل يُنتج تحت مظلة مهرجان يحمل اسمها في أبرز مسابقاته.
في الختام: المسرح يكرم من خدمه بإخلاص
بينما تستعد القاهرة لاحتضان عروض الدورة الجديدة من المهرجان القومي للمسرح، يبقى هذا القرار علامة مضيئة على جدار الثقافة المصرية. قرار لا يهدف فقط لتكريم اسم فني كبير، بل لتأكيد أن من يعطي بصدق لهذا الوطن يُكرم في حياته وبعد مماته.
اسم سميحة أيوب سيبقى محفورًا في الذاكرة، ليس فقط كفنانة عظيمة، بل كعنوان لمسابقة ستشهد ولادة جيل جديد من المسرحيين، الذين سيعرفون منذ اللحظة الأولى أن "سيدة المسرح العربي" لا تزال تُشاهدهم من خلف الكواليس.
