بين الريادة والتحديات.. تقرير اليونيسف يكشف الدول الأفضل لصحة الأطفال النفسية والجسدية في عالم ما بعد الجائحة

مقدمة صوت الواقع
في ظل عالم يتغير بوتيرة متسارعة، ويتقلب بين الأزمات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، تظل رفاهية الأطفال وصحتهم النفسية والجسدية محورًا أساسيًا في تقييم مدى تطور المجتمعات ونجاح الدول في بناء مستقبل مستدام. وفي هذا السياق، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" مؤخرًا تقريرًا دوليًا شاملًا سلّط الضوء على أوضاع الأطفال في 43 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والاتحاد الأوروبي، كاشفًا عن فجوة كبيرة في مستوى العناية بالأطفال بين دول الشمال الأوروبي ونظيراتها من دول الجنوب أو ما يُعرف بالدول النامية.
هولندا والدنمارك في الصدارة.. نموذج يحتذى به
أظهر التقرير أن دولتي هولندا والدنمارك تصدرتا الترتيب العالمي من حيث جودة حياة الأطفال، وذلك استنادًا إلى ثلاثة محاور رئيسية هي: الصحة النفسية، والصحة الجسدية، والمهارات الأساسية. وتفوقت الدولتان على بقية الدول في تقديم بيئة صحية ونفسية متوازنة للأطفال، مما انعكس على مستوى رضا الأطفال عن حياتهم، وانخفاض معدلات السمنة والانتحار، إلى جانب أداء أكاديمي جيد في المهارات الأساسية كالقراءة والحساب.
وقد أشار خبراء اليونيسف إلى أن هذه النتيجة ليست وليدة الصدفة، بل هي انعكاس مباشر لسياسات اجتماعية وتعليمية متقدمة تطبقها الدولتان منذ سنوات، تركز على دعم الأسرة، وتوفير نظام رعاية صحية وتعليمية مجاني وشامل، بالإضافة إلى منح الأطفال مساحة واسعة من التعبير عن الذات والاندماج في المجتمع منذ المراحل المبكرة من حياتهم.
فرنسا والبرتغال وأيرلندا.. في المراتب الأولى ولكن
جاءت فرنسا في المركز الثالث، تلتها البرتغال ثم أيرلندا، وهو ما يعكس استقرارًا نسبيًا في الأداء الأوروبي الغربي. لكن التقرير نبّه إلى وجود تفاوت داخلي داخل هذه البلدان بين الفئات الاجتماعية المختلفة، حيث أظهرت البيانات أن الأطفال المنحدرين من أسر ذات دخل منخفض لا يزالون يعانون من نقص في الخدمات الأساسية، ومن مستويات أعلى من التوتر والقلق، مما يشير إلى ضرورة تعزيز سياسات الشمول الاجتماعي.
دول في ذيل الترتيب.. تحديات مضاعفة
في المقابل، جاءت دول مثل نيوزيلندا، كولومبيا، المكسيك، تركيا وتشيلي في أسفل الترتيب، وهو ما شكل مصدر قلق بالغ لدى معدّي التقرير. وقد تم إرجاع هذا التراجع إلى عوامل متعددة، من أبرزها عدم المساواة في فرص التعليم، وسوء جودة الخدمات الصحية، وتدهور الصحة النفسية للأطفال، وارتفاع معدلات الفقر الغذائي.
وتعتبر كولومبيا والمكسيك من أكثر الدول التي سجلت نسبًا مرتفعة من الأطفال الذين يفتقرون إلى المهارات الأساسية، مثل القدرة على قراءة نص بسيط أو إجراء عمليات حسابية بسيطة، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لمستقبلهم التعليمي والمهني.
أثر الجائحة لا يزال حاضرًا: تعليم هش وصحة نفسية مقلقة
من أبرز النقاط التي أثارها تقرير اليونيسف هو التراجع الحاد في المهارات الأكاديمية لدى الأطفال، وهو ما أرجعه إلى إغلاق المدارس خلال جائحة كوفيد-19، حيث أدى الانقطاع الطويل عن التعليم الحضوري إلى فقدان ملايين الأطفال حول العالم لأساسيات التعلم، مما يصعب استدراكه لاحقًا في حال غياب خطط تعويضية فعالة.
وفي هذا السياق، أظهرت البيانات أن نحو 8 ملايين طفل ممن يبلغون من العمر 15 عامًا في الدول التي شملها التقرير غير قادرين على قراءة نص بسيط أو إجراء عمليات حسابية أساسية، ما يعني أنهم دخلوا سن الرشد دون امتلاك أدوات الفهم الضرورية للتعامل مع الحياة اليومية، وهذا ما وصفه التقرير بأنه "إخفاق جماعي في حماية حق الطفل في التعلم".
وعلى مستوى الصحة النفسية، بيّن التقرير أن هناك تدهورًا عامًا في مستويات الرضا عن الحياة لدى الأطفال، حيث أبدى كثير من المراهقين شعورًا بالقلق، العزلة، وفقدان الأمل بالمستقبل. وكانت اليابان هي الدولة الوحيدة التي سجلت تحسنًا ملحوظًا في هذا المؤشر، في حين تراجعت أغلب الدول، خصوصًا تلك التي فشلت في توفير خدمات الدعم النفسي للأطفال بعد الجائحة.
الصحة الجسدية: خطر البدانة يهدد الأجيال الجديدة
رغم بعض المؤشرات الإيجابية كانخفاض معدلات وفيات الأطفال وتراجع حالات الانتحار في بعض الدول، إلا أن التقرير أطلق ناقوس الخطر بشأن الصحة الجسدية، مشيرًا إلى تزايد عدد الأطفال الذين يعانون من السمنة وزيادة الوزن، وهي ظاهرة ترتبط بشكل مباشر بقلة الحركة، واتباع أنظمة غذائية غير صحية، وتزايد ساعات الجلوس أمام الشاشات، خصوصًا بعد فترة الجائحة.
وحذرت اليونيسف من أن هذه الظاهرة لا تهدد فقط الصحة البدنية للأطفال، بل تؤثر أيضًا على ثقتهم بأنفسهم، وتزيد من خطر تعرضهم للتنمر، والاكتئاب، وانخفاض الأداء الأكاديمي.
دعوة إلى تبني نهج شامل ومتكامل
في تعليقه على نتائج التقرير، قال بو فيكتور نايلوند، مدير مركز "يونيسف إينوشينتي"، إن الأطفال في العالم كانوا يواجهون تحديات كبيرة حتى قبل ظهور الجائحة، مشيرًا إلى أن الأوضاع زادت سوءًا بعد كوفيد-19، خاصة مع تصاعد القلق الاقتصادي في العديد من الدول.
وأضاف نايلوند:
"في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ، يجب أن تكون رفاهية الطفل على رأس أولويات صانعي القرار. تعليم الأطفال وصحتهم النفسية والجسدية ليست مجرد رفاهية، بل ضرورة لضمان مستقبلهم، وأيضًا لضمان الأمن الاقتصادي لمجتمعاتنا بأسرها".
ودعا نايلوند إلى اعتماد سياسات شاملة تعالج مختلف جوانب حياة الطفل، بدءًا من مرحلة ما قبل الولادة، مرورًا بمرحلة الطفولة المبكرة، ووصولًا إلى المراهقة، مؤكدًا على أهمية التركيز على الأطفال القادمين من خلفيات اجتماعية واقتصادية هشة.
الخلاصة: ما الذي يمكن فعله؟
في ضوء هذا التقرير، تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة التفكير في استراتيجيات التعامل مع الطفولة في العالم المعاصر، بحيث لا تقتصر الجهود على التعليم فقط، بل تشمل البيئة الأسرية، والصحة النفسية، والدعم الاجتماعي، والتغذية، والتنشئة السليمة.
كما أن تجربة هولندا والدنمارك يمكن أن تكون نموذجًا للدول الأخرى، خصوصًا فيما يتعلق بتقديم خدمات اجتماعية مجانية، ودعم الأسر، والدمج المبكر للأطفال في الحياة العامة.
في النهاية، يُذكّرنا التقرير بأن مستقبل المجتمعات يبدأ من الطفولة، وأن أي تقصير في رعاية هذا الجيل ستكون له آثار طويلة الأمد، ليس فقط على الأفراد، بل على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدول.