الذهب من الملاذ الآمن إلى ضحية التهدئة الدولية
![]() |
| الذهب من الملاذ الآمن إلى ضحية التهدئة الدولية |
مقدمة صوت الواقع
لطالما ارتبط الذهب في أذهان المستثمرين بكونه "الملاذ الآمن" خلال الأزمات، سواء كانت اقتصادية، أو سياسية، أو جيوسياسية. فكلما اشتدت الأزمات الدولية، ارتفع الطلب على الذهب، وبالتالي صعدت أسعاره. غير أن ما حدث في اليومين الماضيين جاء مخالفًا لهذا النمط التقليدي، إذ شهد الذهب تراجعًا حادًا على وقع أخبار إيجابية متعلقة بالعلاقات بين الولايات المتحدة والصين.
فقد أفادت تقارير إعلامية ودبلوماسية عن وجود مبادرات تهدئة واتفاق ضمني بين الطرفين لتخفيف حدة التوترات التجارية، بما يشمل خفض الرسوم الجمركية المتبادلة. هذه الأخبار انعكست فورًا على الأسواق العالمية؛ إذ ارتفع الدولار أمام سلة العملات، مما قلل من جاذبية الذهب كأداة للتحوّط، فكان الهبوط السريع في السعر العالمي للمعدن الثمين نتيجة شبه حتمية.
تصريحات متباينة داخل السوق المصري
في السوق المحلي المصري، تباينت ردود أفعال المتخصصين في قطاع الذهب إزاء هذا التراجع. فبينما قلل هاني ميلاد، رئيس شعبة الذهب باتحاد الغرف التجارية، من أهمية هذا الانخفاض، معتبرًا إياه "حركة وقتية" ناتجة عن التغيرات الطارئة في الأخبار العالمية، أشار إلى أن الذهب سيظل مخزنًا آمنًا للقيمة في ظل الاضطرابات الاقتصادية المتوقعة على المدى المتوسط والطويل.
من جهة أخرى، اتخذ لطفي منيب، نائب رئيس شعبة الذهب والمجوهرات، موقفًا أكثر تحفظًا، مرجحًا أن يستمر الهبوط حتى يصل سعر الأونصة إلى حدود 3000 دولار، خاصة في حال استمرت مؤشرات التهدئة الدولية، واستعاد الاقتصاد العالمي بعضًا من استقراره. وربط منيب تراجع الأسعار ببدء التراجع في حدة التوترات، مشيرًا إلى أن الذهب كان قد بدأ العام عند نحو 2600 دولار، قبل أن يقفز بفعل أزمات متتالية، ثم يعاود التراجع مجددًا مع تحسّن المؤشرات الدولية.
الذهب بين السياسة والنقد
في جوهر هذه التراجعات يكمن تفاعل معقّد بين السياسة والنقد. فالاتفاق بين الولايات المتحدة والصين ليس مجرد خبر اقتصادي، بل هو دلالة رمزية على إمكانية عودة الاستقرار للأسواق العالمية. هذا الاستقرار المتوقع يقلل من دوافع المستثمرين إلى التوجّه نحو الأصول الآمنة مثل الذهب، ويدفعهم مجددًا نحو الأسواق المالية والأسهم والعملات.
لكن رغم هذه المؤشرات، فإن الأمر لا يخلو من التحديات، إذ أن التخلي السريع عن الذهب لصالح الدولار أو الأسهم قد يكون مفعوله قصير الأمد، خاصة في حال عاد التوتر أو صدرت بيانات اقتصادية سلبية من أي من القوى الاقتصادية الكبرى.
وما يعزز هذا السيناريو هو أن عدداً من البنوك المركزية حول العالم قد تستغل هذا التراجع لزيادة حيازاتها من الذهب، وهو ما يُعرف بـ"الشراء عند الانخفاض"، باعتبار أن الذهب ما يزال أصلًا موثوقًا على المدى الطويل. وتاريخيًا، كثيرًا ما شهدنا عودة قوية للذهب بعد فترات تراجع قصيرة.
علاقة الدولار بالذهب.. معادلة عكسية لا تزال قائمة
أحد العوامل الرئيسية في هذا التراجع هو قوة الدولار الأمريكي. فمع الإعلان عن الاتفاق التجاري بين بكين وواشنطن، ارتفع الدولار ليزيد الضغط على أسعار الذهب. والمعروف اقتصاديًا أن العلاقة بين الذهب والدولار علاقة عكسية؛ فكلما ارتفع الدولار، تراجع الذهب، والعكس صحيح.
في الوقت نفسه، يُنظر إلى هذه العلاقة كمؤشر على صحة الاقتصاد الأمريكي، فإذا واصل الدولار صعوده مدفوعًا بنتائج اقتصادية قوية، فإن ذلك قد يؤجل أي صعود جديد في أسعار الذهب، أما في حال صدور بيانات تشير إلى تباطؤ أو تراجع في المؤشرات الأمريكية، فقد نرى عودة سريعة لأسعار الذهب إلى مسارها الصاعد.
تأثير الانخفاض على السوق المحلي.. فرص للشراء أم حذر من المخاطرة؟
في السوق المصري، مثلت هذه التراجعات فرصة ذهبية – إن جاز التعبير – لبعض المواطنين والمستثمرين لشراء الذهب بأسعار أقل مما كانت عليه في الأسابيع الماضية. ووفقًا للخبراء، فإن التراجع الحاد في السعر العالمي يؤثر بشكل مباشر على السعر المحلي، حيث يرتبط كل دولار انخفاض في السعر العالمي بانخفاض محلي يُقدر بـ1.60 جنيه لعيار 24، و1.40 جنيه لعيار 21.
ويعتبر بعض التجار أن هذه الفترة مثالية للشراء، خاصةً لأولئك الذين يرغبون في الاستثمار طويل الأمد أو اقتناء الذهب كوسيلة للتحوّط من التضخم. أما المستثمرون قصيرو الأجل، فقد يتوخون الحذر حاليًا، بانتظار استقرار السوق ومعرفة ما إذا كان التراجع سيستمر أم أن الأسعار ستعاود الارتفاع.
مستقبل الذهب: إلى أين تتجه البوصلة؟
من المؤكد أن الذهب لن يختفي من المشهد كأصل مالي مركزي. ورغم التراجعات الأخيرة، إلا أن عوامل مثل تباطؤ النمو العالمي، واحتمال خفض أسعار الفائدة من قبل بعض البنوك المركزية، والتوترات الجيوسياسية المحتملة، كلها عوامل قد تدفع الذهب إلى الصعود مجددًا.
كما أن بعض المحللين يرون في هذا الانخفاض فرصة لإعادة تقييم السوق وتصحيح الأسعار، بعدما شهدت ارتفاعات سريعة وغير مسبوقة في فترة قصيرة.
وفي نهاية المطاف، فإن الاتجاه العام لأسعار الذهب سيظل مرهونًا بمستجدات الأوضاع العالمية، سواء على صعيد الاقتصاد الكلي أو العلاقات السياسية بين الدول الكبرى. وبينما تظل التوقعات منقسمة بين من يرى الذهب ذاهبًا نحو مستويات 3000 دولار، ومن يتوقع ارتدادًا صاعدًا، تبقى القاعدة الذهبية كما هي: "الذهب لا يموت.. وإنما يخفت بريقه مؤقتًا".
